عقب الأحداث الأخيرة التي حدثت في الأردن,
هل تساءلت يومًا كيف نشأ الأردن الحديث؟
يغوص بنا هذا الكتاب، الصادر عن مكتبة كمبريدج المرموقة لدراسات الشرق الأوسط، في رحلة تاريخية لكشف النقاب عن قصة تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية. لا يقدم لنا الكتاب سردًا تقليديًا للأحداث، بل يكشف لنا بأسلوب تحليلي نقدي دقيق عن ديناميكية معقدة جمعت بين طموح شخصية محورية، هو الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين ، وحسابات إمبراطورية عظمى، هي بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
بعيدًا عن التبجيل الأحادي أو الاختزال المخل، يرسم لنا الكتاب صورة حية لتلك الفترة الحرجة، مظهرًا كيف تشكلت إمارة شرق الأردن في ظل ظروف ارتجالية وغير متوقعة . وببراعة، يفكك لنا شبكة متشابكة من المصالح المتبادلة والمناورات الذكية التي ربطت بين الأمير الهاشمي الطموح وصناع القرار البريطانيين.
ستكتشف كيف أن فهم هذه العلاقة بكل تعقيداتها وتناقضاتها هو المفتاح الحقيقي لفهم نشأة الأردن وتطوره، وكيف أثرت هذه العلاقة بشكل عميق على بنية الدولة الوليدة، وهويتها، وسياستها الخارجية، وصولًا إلى النهاية المأساوية لحياة مؤسسها عام 1951. إنه بمثابة تشريح دقيق للحظة تاريخية فارقة أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط، حيث تلاقت الطموحات المحلية مع الحسابات الإمبراطورية.
لماذا هذا الكتاب مهم؟ لأنه يقدم قراءة جديدة وموثقة لتاريخ الأردن، مدعومة بأبحاث أرشيفية معمقة، تتحدى التفسيرات السطحية وتقدم رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار دوافع جميع الأطراف الفاعلة في تلك الحقبة. إنه ليس مجرد كتاب عن تاريخ الأردن، بل هو نافذة تطل منها على تاريخ الانتداب البريطاني في المنطقة، وتداعيات الحرب العالمية الأولى، وتعقيدات العلاقة بين القومية العربية والقوى الكبرى، وحتى جذور الصراع العربي الإسرائيلي. إنه مرجع لا غنى عنه لكل مهتم بتاريخ الشرق الأوسط الحديث والعلاقات الدولية.
من هي المؤلفة؟ الدكتورة ماري سي. ويلسون ، المؤرخة والأكاديمية المتخصصة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وخاصة تاريخ بلاد الشام والأسرة الهاشمية وفترة الانتداب. نشرها في سلسلة كمبريدج المرموقة يشهد على عمق معرفتها ومكانتها الأكاديمية.
تلخيص معمق وشامل
يتبع الكتاب على الأرجح مسارًا تاريخيًا وتحليليًا يغطي الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى اغتيال الملك عبد الله الأول، ويمكن تلخيص محاوره الرئيسية وأطروحات المؤلفة الأساسية (مع نسبتها إليها بوضوح) على النحو التالي:
المحور الأول: مشهد ما بعد الحرب الكبرى – انهيار العثمانية وبزوغ شرق أوسط جديد (عقد 1910 – أوائل 1920)
- السياق العام: يضع الكتاب الأحداث في سياقها الأوسع: انهيار الإمبراطورية العثمانية، الثورة العربية الكبرى (1916) بقيادة الشريف حسين بن علي (والد عبد الله)، الوعود البريطانية المتناقضة للعرب (مراسلات حسين-مكماهون) وللصهاينة (وعد بلفور)، والاتفاقيات السرية لتقاسم المنطقة (سايكس-بيكو).
- الطموحات الهاشمية: يحلل الكتاب طموحات الشريف حسين وأبنائه (علي، عبد الله، فيصل، زيد) في إقامة مملكة عربية موحدة ومستقلة في المشرق العربي.
- دور عبد الله الأولي: يستعرض دور الأمير عبد الله في الثورة العربية، وربما يشير إلى شعوره بالتهميش النسبي مقارنة بشقيقه فيصل الذي تُوج ملكًا على سوريا لفترة وجيزة ثم على العراق.
المحور الثاني: \"صناعة\" شرق الأردن – ارتجال إمبراطوري وطموح هاشمي (1920 – 1923)
- لحظة التأسيس الحاسمة: يركز هذا الجزء بشكل مكثف على الظروف التي أدت إلى نشأة الكيان الأردني. تجادل المؤلفة على الأرجح بأن تأسيس شرق الأردن لم يكن نتيجة خطة بريطانية مسبقة أو حتمية تاريخية قومية، بل كان إلى حد كبير نتيجة تفاعل ظرفي وارتجالي بين عوامل مختلفة:
- وصول عبد الله إلى معان ثم عمان (1920-1921): بعد طرد فيصل من سوريا على يد الفرنسيين، تحرك عبد الله بقواته إلى جنوب سوريا (التي أصبحت شرق الأردن لاحقًا)، معلنًا نيته استعادة عرش أخيه. شكل وصوله تحديًا للبريطانيين والفرنسيين.
- الحسابات البريطانية المتعددة: وجدت بريطانيا نفسها أمام معضلة. من ناحية، لم تكن ترغب في مواجهة عبد الله عسكريًا أو السماح له بمهاجمة الفرنسيين في سوريا. ومن ناحية أخرى، رأت في وجوده فرصة لـ:
- خلق منطقة عازلة: بين سوريا الخاضعة لفرنسا وفلسطين التي كانت جزءًا من الانتداب البريطاني وتواجه تحديات متزايدة.
- تأمين طريق المواصلات إلى العراق: الذي كان تحت الانتداب البريطاني أيضًا ويحكمه فيصل.
- \"ترضية\" مؤقتة لعبد الله: وامتصاص طموحاته الهاشمية ومنعه من إثارة مشاكل أكبر.
- إدارة التكاليف: إيجاد حل إداري رخيص نسبيًا لمنطقة كانت تعتبر قليلة الأهمية استراتيجيًا واقتصاديًا.
- لقاء تشرشل وعبد الله (1921): اللقاء الحاسم الذي تم فيه الاتفاق على تأسيس إدارة مؤقتة في شرق الأردن تحت قيادة عبد الله وبإشراف بريطاني، كجزء من الانتداب على فلسطين ولكن مع استثنائها لاحقًا من التزامات وعد بلفور (وهو ما تم تأكيده في الكتاب الأبيض لتشرشل عام 1922 ).
- الخلاصة: تؤكد ويلسون على الأرجح على الطبيعة \"المصطنعة\" أو \"المُركّبة\" لنشأة شرق الأردن ككيان سياسي منفصل، نتاج تسوية بين طموح أمير هاشمي وحسابات قوة إمبراطورية.
المحور الثالث: بناء الإمارة تحت الانتداب – ترسيخ السلطة بقيود بريطانية (عقد 1920 – عقد 1930)
- تحديات التأسيس: يحلل الكتاب الجهود التي بذلها الأمير عبد الله، بدعم وإشراف بريطانيين، لترسيخ سلطته وبناء مؤسسات الدولة الوليدة في بيئة صعبة تتسم بـ:
- مجتمع قبلي غير مركزي: صعوبة إخضاع العشائر القوية لسلطة مركزية ناشئة.
- اقتصاد هش وموارد محدودة: الاعتماد شبه الكامل على الدعم المالي البريطاني (المعونة).
- حدود مصطنعة وغير مستقرة.
- أدوات بناء الدولة:
- الدعم المالي البريطاني: شريان الحياة الأساسي للإمارة وميزانيتها.
- المستشارون البريطانيون: الدور المحوري للمعتمدين والمستشارين البريطانيين (مثل أليك كيركبرايد) في توجيه الإدارة والسياسات.
- الفيلق العربي (Arab Legion): القوة العسكرية والأمنية الرئيسية للإمارة، والتي تم تأسيسها وتدريبها وقيادتها بشكل أساسي من قبل ضباط بريطانيين (أبرزهم فريدريك بيك ثم جون باغوت غلوب \"غلوب باشا\"). لعب الفيلق دورًا حاسمًا في بسط سلطة الدولة على العشائر، وحماية الحدود، ولاحقًا لعب دورًا إقليميًا. ترى المؤلفة على الأرجح أن الفيلق كان تجسيدًا للعلاقة الأنجلو-أردنية.
- العلاقة الجدلية مع بريطانيا: يستمر الكتاب في تحليل العلاقة المعقدة بين عبد الله وبريطانيا:
- الاعتماد المتبادل: عبد الله بحاجة للدعم المالي والعسكري والسياسي البريطاني لضمان بقاء إمارته وحكمه. بريطانيا بحاجة لعبد الله والفيلق العربي للحفاظ على الاستقرار في منطقة استراتيجية (حلقة وصل بين فلسطين والعراق والجزيرة العربية) وبتكلفة منخفضة نسبيًا.
- المناورة والمساومة: لم يكن عبد الله مجرد أداة طيعة بيد بريطانيا. تصف المؤلفة كيف استخدم مهاراته السياسية والدبلوماسية للمناورة، والتفاوض للحصول على المزيد من الاستقلالية والموارد، ومحاولة تحقيق طموحاته الخاصة ضمن القيود التي فرضها الانتداب.
- احتواء الطموحات: في المقابل، عملت بريطانيا باستمرار على احتواء طموحات عبد الله التوسعية (خاصة مشروع \"سوريا الكبرى\" الذي كان يهدف لتوحيد شرق الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان تحت حكمه)، والتي كانت تتعارض مع مصالحها ومصالح حلفائها (خاصة فرنسا في سوريا ولبنان).
المحور الرابع: القضية الفلسطينية – طموحات ومخاطر
- موقع شرق الأردن الجغرافي والسياسي: يحلل الكتاب الدور المعقد الذي لعبه شرق الأردن والأمير عبد الله تجاه القضية الفلسطينية المجاورة:
- العلاقات مع الفلسطينيين: طبيعة علاقات عبد الله مع القيادات والشعب الفلسطيني، والتي تراوحت بين محاولات كسب النفوذ وعرض الحماية، وبين التوتر والتنافس (خاصة مع المفتي الحاج أمين الحسيني).
- العلاقات مع الحركة الصهيونية: يكشف الكتاب (كما تفعل دراسات أخرى) عن وجود اتصالات وتعاملات، سرية أحيانًا، بين عبد الله وبعض قادة الحركة الصهيونية، والتي فُسرت بشكل مختلف (براغماتية سياسية؟ محاولة لتأمين مصالح؟ خيانة للقضية العربية؟). تقدم ويلسون تفسيرها الخاص لدوافع هذه الاتصالات.
- ثورة 1936-1939: موقف عبد الله ودور الفيلق العربي خلال الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني والهجرة الصهيونية.
المحور الخامس: الحرب العالمية الثانية والاستقلال الاسمي (عقد 1940)
- الولاء للحلفاء: يبرز الكتاب ولاء عبد الله والفيلق العربي لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ومساهمة الفيلق في قمع ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 وفي الحملة على سوريا ولبنان ضد قوات فيشي الفرنسية.
- نحو الاستقلال: يتتبع الخطوات التي أدت إلى إعلان استقلال شرق الأردن رسميًا عام 1946 وتغيير لقب عبد الله من أمير إلى ملك.
- استمرار النفوذ البريطاني: تؤكد المؤلفة على الأرجح أن هذا الاستقلال كان اسميًا إلى حد كبير في البداية، حيث استمر الاعتماد المالي على بريطانيا، وظل الفيلق العربي تحت قيادة ضباط بريطانيين (غلوب باشا)، واستمرت بريطانيا في ممارسة نفوذ كبير على السياسة الخارجية والدفاعية للأردن.
المحور السادس: حرب 1948 وضم الضفة الغربية – ذروة الطموح ومأزقه
- الدور الأردني في الحرب: يقدم الكتاب تحليلاً مفصلاً لدور الأردن والملك عبد الله في حرب فلسطين عام 1948:
- الفيلق العربي كقوة رئيسية: كان الفيلق العربي هو الجيش العربي النظامي الأكثر كفاءة وتنظيمًا في الحرب.
- أهداف عبد الله: تحليل دوافع عبد الله لدخول الحرب، والتي يراها الكثيرون مرتبطة بطموحه لضم الجزء العربي من فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية) إلى مملكته، وربما نتيجة تفاهمات مسبقة (موضع جدل كبير) مع بعض الأطراف.
- النتائج العسكرية والسياسية: نجاح الفيلق العربي في السيطرة على الضفة الغربية والقدس الشرقية والدفاع عنها، مقابل خسارة مناطق أخرى.
- ضم الضفة الغربية (1950): قرار عبد الله الرسمي بضم الضفة الغربية، وتداعياته السياسية الهائلة: توسيع المملكة، تغيير التركيبة السكانية (غالبية فلسطينية)، زيادة التحديات السياسية والاقتصادية، وعزل الأردن عن جزء كبير من العالم العربي الذي رفض خطوة الضم.
- اتهامات ومبررات: يناقش الكتاب الاتهامات التي وجهت لعبد الله بالتواطؤ مع إسرائيل أو خيانة القضية الفلسطينية، ويقدم تحليلاً لدوافعه التي قد تمزج بين الطموح الهاشمي، والبراغماتية السياسية في مواجهة الواقع، والرغبة في منع وقوع الضفة الغربية بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية.
المحور السابع: السنوات الأخيرة والاغتيال – نهاية حقبة (1948-1951)
- تحديات الحكم الموسع: يصور الكتاب الصعوبات التي واجهها عبد الله في حكم المملكة الموسعة: استيعاب مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، التعامل مع المعارضة المتزايدة من القوميين العرب والفلسطينيين الذين اتهموه بالعمالة لبريطانيا والتفريط بفلسطين، التوترات الاقتصادية، والعزلة الإقليمية.
- الاغتيال في القدس (يوليو 1951): يحلل ظروف ودوافع اغتيال الملك عبد الله على يد شاب فلسطيني عند مدخل المسجد الأقصى، والذي شكل نهاية مأساوية لمسيرته الطويلة والمعقدة، ونهاية لحقبة تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية.
- الإرث والتداعيات: يقيم الكتاب الإرث الذي تركه الملك عبد الله: دولة فتية ولكنها قائمة، علاقة خاصة ومعقدة مع بريطانيا، جيش قوي نسبيًا (الفيلق العربي)، ودور محوري في الصراع العربي-الإسرائيلي، بالإضافة إلى تحديات بنيوية تتعلق بالهوية الوطنية والاقتصاد والشرعية السياسية استمرت لعقود بعد رحيله.
ختاما
يقدم كتاب ماري ويلسون \"الملك عبد الله وبريطانيا وصناعة الأردن\" رواية تاريخية تحليلية غنية ومفصلة، تتحدى التبسيط وتكشف عن التعقيدات والظروف التي أحاطت بولادة الدولة الأردنية. تجادل المؤلفة بأن الأردن لم يكن نتاجًا لحتمية تاريخية بل صنيعة تفاعل دقيق بين طموحات أمير هاشمي سعى لبناء مملكة لنفسه، وبين حسابات قوة إمبراطورية سعت لترتيب المنطقة بما يخدم مصالحها بعد انهيار النظام القديم. العلاقة بين عبد الله وبريطانيا كانت علاقة اعتماد متبادل ومناورة مستمرة، شكلت هوية الدولة ومؤسساتها ومسارها المستقبلي. من خلال تتبع هذه العلاقة الجدلية عبر ثلاثة عقود حاسمة، يقدم الكتاب فهمًا أعمق ليس فقط لتاريخ الأردن، بل لديناميكيات بناء الدولة في ظل الانتداب، ولعبة الأمم في الشرق الأوسط، والإرث المعقد الذي لا تزال المنطقة تتعامل معه حتى اليوم. إنه عمل يؤكد على أهمية فهم تفاعل العوامل المحلية والإقليمية والدولية، ودور الأفراد والطموحات الشخصية، وقوة الظروف التاريخية في تشكيل مصائر الأمم.
#فلسطين #zionism
عقب الأحداث الأخيرة التي حدثت في الأردن,
هل تساءلت يومًا كيف نشأ الأردن الحديث؟
يغوص بنا هذا الكتاب، الصادر عن مكتبة كمبريدج المرموقة لدراسات الشرق الأوسط، في رحلة تاريخية لكشف النقاب عن قصة تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية. لا يقدم لنا الكتاب سردًا تقليديًا للأحداث، بل يكشف لنا بأسلوب تحليلي نقدي دقيق عن ديناميكية معقدة جمعت بين طموح شخصية محورية، هو الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين ، وحسابات إمبراطورية عظمى، هي بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
بعيدًا عن التبجيل الأحادي أو الاختزال المخل، يرسم لنا الكتاب صورة حية لتلك الفترة الحرجة، مظهرًا كيف تشكلت إمارة شرق الأردن في ظل ظروف ارتجالية وغير متوقعة . وببراعة، يفكك لنا شبكة متشابكة من المصالح المتبادلة والمناورات الذكية التي ربطت بين الأمير الهاشمي الطموح وصناع القرار البريطانيين.
ستكتشف كيف أن فهم هذه العلاقة بكل تعقيداتها وتناقضاتها هو المفتاح الحقيقي لفهم نشأة الأردن وتطوره، وكيف أثرت هذه العلاقة بشكل عميق على بنية الدولة الوليدة، وهويتها، وسياستها الخارجية، وصولًا إلى النهاية المأساوية لحياة مؤسسها عام 1951. إنه بمثابة تشريح دقيق للحظة تاريخية فارقة أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط، حيث تلاقت الطموحات المحلية مع الحسابات الإمبراطورية.
لماذا هذا الكتاب مهم؟ لأنه يقدم قراءة جديدة وموثقة لتاريخ الأردن، مدعومة بأبحاث أرشيفية معمقة، تتحدى التفسيرات السطحية وتقدم رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار دوافع جميع الأطراف الفاعلة في تلك الحقبة. إنه ليس مجرد كتاب عن تاريخ الأردن، بل هو نافذة تطل منها على تاريخ الانتداب البريطاني في المنطقة، وتداعيات الحرب العالمية الأولى، وتعقيدات العلاقة بين القومية العربية والقوى الكبرى، وحتى جذور الصراع العربي الإسرائيلي. إنه مرجع لا غنى عنه لكل مهتم بتاريخ الشرق الأوسط الحديث والعلاقات الدولية.
من هي المؤلفة؟ الدكتورة ماري سي. ويلسون ، المؤرخة والأكاديمية المتخصصة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وخاصة تاريخ بلاد الشام والأسرة الهاشمية وفترة الانتداب. نشرها في سلسلة كمبريدج المرموقة يشهد على عمق معرفتها ومكانتها الأكاديمية.
تلخيص معمق وشامل
يتبع الكتاب على الأرجح مسارًا تاريخيًا وتحليليًا يغطي الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى اغتيال الملك عبد الله الأول، ويمكن تلخيص محاوره الرئيسية وأطروحات المؤلفة الأساسية (مع نسبتها إليها بوضوح) على النحو التالي:
المحور الأول: مشهد ما بعد الحرب الكبرى – انهيار العثمانية وبزوغ شرق أوسط جديد (عقد 1910 – أوائل 1920)
- السياق العام: يضع الكتاب الأحداث في سياقها الأوسع: انهيار الإمبراطورية العثمانية، الثورة العربية الكبرى (1916) بقيادة الشريف حسين بن علي (والد عبد الله)، الوعود البريطانية المتناقضة للعرب (مراسلات حسين-مكماهون) وللصهاينة (وعد بلفور)، والاتفاقيات السرية لتقاسم المنطقة (سايكس-بيكو).
- الطموحات الهاشمية: يحلل الكتاب طموحات الشريف حسين وأبنائه (علي، عبد الله، فيصل، زيد) في إقامة مملكة عربية موحدة ومستقلة في المشرق العربي.
- دور عبد الله الأولي: يستعرض دور الأمير عبد الله في الثورة العربية، وربما يشير إلى شعوره بالتهميش النسبي مقارنة بشقيقه فيصل الذي تُوج ملكًا على سوريا لفترة وجيزة ثم على العراق.
المحور الثاني: "صناعة" شرق الأردن – ارتجال إمبراطوري وطموح هاشمي (1920 – 1923)
- لحظة التأسيس الحاسمة: يركز هذا الجزء بشكل مكثف على الظروف التي أدت إلى نشأة الكيان الأردني. تجادل المؤلفة على الأرجح بأن تأسيس شرق الأردن لم يكن نتيجة خطة بريطانية مسبقة أو حتمية تاريخية قومية، بل كان إلى حد كبير نتيجة تفاعل ظرفي وارتجالي بين عوامل مختلفة:
- وصول عبد الله إلى معان ثم عمان (1920-1921): بعد طرد فيصل من سوريا على يد الفرنسيين، تحرك عبد الله بقواته إلى جنوب سوريا (التي أصبحت شرق الأردن لاحقًا)، معلنًا نيته استعادة عرش أخيه. شكل وصوله تحديًا للبريطانيين والفرنسيين.
- الحسابات البريطانية المتعددة: وجدت بريطانيا نفسها أمام معضلة. من ناحية، لم تكن ترغب في مواجهة عبد الله عسكريًا أو السماح له بمهاجمة الفرنسيين في سوريا. ومن ناحية أخرى، رأت في وجوده فرصة لـ:
- خلق منطقة عازلة: بين سوريا الخاضعة لفرنسا وفلسطين التي كانت جزءًا من الانتداب البريطاني وتواجه تحديات متزايدة.
- تأمين طريق المواصلات إلى العراق: الذي كان تحت الانتداب البريطاني أيضًا ويحكمه فيصل.
- "ترضية" مؤقتة لعبد الله: وامتصاص طموحاته الهاشمية ومنعه من إثارة مشاكل أكبر.
- إدارة التكاليف: إيجاد حل إداري رخيص نسبيًا لمنطقة كانت تعتبر قليلة الأهمية استراتيجيًا واقتصاديًا.
- لقاء تشرشل وعبد الله (1921): اللقاء الحاسم الذي تم فيه الاتفاق على تأسيس إدارة مؤقتة في شرق الأردن تحت قيادة عبد الله وبإشراف بريطاني، كجزء من الانتداب على فلسطين ولكن مع استثنائها لاحقًا من التزامات وعد بلفور (وهو ما تم تأكيده في الكتاب الأبيض لتشرشل عام 1922 ).
- الخلاصة: تؤكد ويلسون على الأرجح على الطبيعة "المصطنعة" أو "المُركّبة" لنشأة شرق الأردن ككيان سياسي منفصل، نتاج تسوية بين طموح أمير هاشمي وحسابات قوة إمبراطورية.
المحور الثالث: بناء الإمارة تحت الانتداب – ترسيخ السلطة بقيود بريطانية (عقد 1920 – عقد 1930)
- تحديات التأسيس: يحلل الكتاب الجهود التي بذلها الأمير عبد الله، بدعم وإشراف بريطانيين، لترسيخ سلطته وبناء مؤسسات الدولة الوليدة في بيئة صعبة تتسم بـ:
- مجتمع قبلي غير مركزي: صعوبة إخضاع العشائر القوية لسلطة مركزية ناشئة.
- اقتصاد هش وموارد محدودة: الاعتماد شبه الكامل على الدعم المالي البريطاني (المعونة).
- حدود مصطنعة وغير مستقرة.
- أدوات بناء الدولة:
- الدعم المالي البريطاني: شريان الحياة الأساسي للإمارة وميزانيتها.
- المستشارون البريطانيون: الدور المحوري للمعتمدين والمستشارين البريطانيين (مثل أليك كيركبرايد) في توجيه الإدارة والسياسات.
- الفيلق العربي (Arab Legion): القوة العسكرية والأمنية الرئيسية للإمارة، والتي تم تأسيسها وتدريبها وقيادتها بشكل أساسي من قبل ضباط بريطانيين (أبرزهم فريدريك بيك ثم جون باغوت غلوب "غلوب باشا"). لعب الفيلق دورًا حاسمًا في بسط سلطة الدولة على العشائر، وحماية الحدود، ولاحقًا لعب دورًا إقليميًا. ترى المؤلفة على الأرجح أن الفيلق كان تجسيدًا للعلاقة الأنجلو-أردنية.
- العلاقة الجدلية مع بريطانيا: يستمر الكتاب في تحليل العلاقة المعقدة بين عبد الله وبريطانيا:
- الاعتماد المتبادل: عبد الله بحاجة للدعم المالي والعسكري والسياسي البريطاني لضمان بقاء إمارته وحكمه. بريطانيا بحاجة لعبد الله والفيلق العربي للحفاظ على الاستقرار في منطقة استراتيجية (حلقة وصل بين فلسطين والعراق والجزيرة العربية) وبتكلفة منخفضة نسبيًا.
- المناورة والمساومة: لم يكن عبد الله مجرد أداة طيعة بيد بريطانيا. تصف المؤلفة كيف استخدم مهاراته السياسية والدبلوماسية للمناورة، والتفاوض للحصول على المزيد من الاستقلالية والموارد، ومحاولة تحقيق طموحاته الخاصة ضمن القيود التي فرضها الانتداب.
- احتواء الطموحات: في المقابل، عملت بريطانيا باستمرار على احتواء طموحات عبد الله التوسعية (خاصة مشروع "سوريا الكبرى" الذي كان يهدف لتوحيد شرق الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان تحت حكمه)، والتي كانت تتعارض مع مصالحها ومصالح حلفائها (خاصة فرنسا في سوريا ولبنان).
المحور الرابع: القضية الفلسطينية – طموحات ومخاطر
- موقع شرق الأردن الجغرافي والسياسي: يحلل الكتاب الدور المعقد الذي لعبه شرق الأردن والأمير عبد الله تجاه القضية الفلسطينية المجاورة:
- العلاقات مع الفلسطينيين: طبيعة علاقات عبد الله مع القيادات والشعب الفلسطيني، والتي تراوحت بين محاولات كسب النفوذ وعرض الحماية، وبين التوتر والتنافس (خاصة مع المفتي الحاج أمين الحسيني).
- العلاقات مع الحركة الصهيونية: يكشف الكتاب (كما تفعل دراسات أخرى) عن وجود اتصالات وتعاملات، سرية أحيانًا، بين عبد الله وبعض قادة الحركة الصهيونية، والتي فُسرت بشكل مختلف (براغماتية سياسية؟ محاولة لتأمين مصالح؟ خيانة للقضية العربية؟). تقدم ويلسون تفسيرها الخاص لدوافع هذه الاتصالات.
- ثورة 1936-1939: موقف عبد الله ودور الفيلق العربي خلال الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الانتداب البريطاني والهجرة الصهيونية.
المحور الخامس: الحرب العالمية الثانية والاستقلال الاسمي (عقد 1940)
- الولاء للحلفاء: يبرز الكتاب ولاء عبد الله والفيلق العربي لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ومساهمة الفيلق في قمع ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 وفي الحملة على سوريا ولبنان ضد قوات فيشي الفرنسية.
- نحو الاستقلال: يتتبع الخطوات التي أدت إلى إعلان استقلال شرق الأردن رسميًا عام 1946 وتغيير لقب عبد الله من أمير إلى ملك.
- استمرار النفوذ البريطاني: تؤكد المؤلفة على الأرجح أن هذا الاستقلال كان اسميًا إلى حد كبير في البداية، حيث استمر الاعتماد المالي على بريطانيا، وظل الفيلق العربي تحت قيادة ضباط بريطانيين (غلوب باشا)، واستمرت بريطانيا في ممارسة نفوذ كبير على السياسة الخارجية والدفاعية للأردن.
المحور السادس: حرب 1948 وضم الضفة الغربية – ذروة الطموح ومأزقه
- الدور الأردني في الحرب: يقدم الكتاب تحليلاً مفصلاً لدور الأردن والملك عبد الله في حرب فلسطين عام 1948:
- الفيلق العربي كقوة رئيسية: كان الفيلق العربي هو الجيش العربي النظامي الأكثر كفاءة وتنظيمًا في الحرب.
- أهداف عبد الله: تحليل دوافع عبد الله لدخول الحرب، والتي يراها الكثيرون مرتبطة بطموحه لضم الجزء العربي من فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية) إلى مملكته، وربما نتيجة تفاهمات مسبقة (موضع جدل كبير) مع بعض الأطراف.
- النتائج العسكرية والسياسية: نجاح الفيلق العربي في السيطرة على الضفة الغربية والقدس الشرقية والدفاع عنها، مقابل خسارة مناطق أخرى.
- ضم الضفة الغربية (1950): قرار عبد الله الرسمي بضم الضفة الغربية، وتداعياته السياسية الهائلة: توسيع المملكة، تغيير التركيبة السكانية (غالبية فلسطينية)، زيادة التحديات السياسية والاقتصادية، وعزل الأردن عن جزء كبير من العالم العربي الذي رفض خطوة الضم.
- اتهامات ومبررات: يناقش الكتاب الاتهامات التي وجهت لعبد الله بالتواطؤ مع إسرائيل أو خيانة القضية الفلسطينية، ويقدم تحليلاً لدوافعه التي قد تمزج بين الطموح الهاشمي، والبراغماتية السياسية في مواجهة الواقع، والرغبة في منع وقوع الضفة الغربية بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية.
المحور السابع: السنوات الأخيرة والاغتيال – نهاية حقبة (1948-1951)
- تحديات الحكم الموسع: يصور الكتاب الصعوبات التي واجهها عبد الله في حكم المملكة الموسعة: استيعاب مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، التعامل مع المعارضة المتزايدة من القوميين العرب والفلسطينيين الذين اتهموه بالعمالة لبريطانيا والتفريط بفلسطين، التوترات الاقتصادية، والعزلة الإقليمية.
- الاغتيال في القدس (يوليو 1951): يحلل ظروف ودوافع اغتيال الملك عبد الله على يد شاب فلسطيني عند مدخل المسجد الأقصى، والذي شكل نهاية مأساوية لمسيرته الطويلة والمعقدة، ونهاية لحقبة تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية.
- الإرث والتداعيات: يقيم الكتاب الإرث الذي تركه الملك عبد الله: دولة فتية ولكنها قائمة، علاقة خاصة ومعقدة مع بريطانيا، جيش قوي نسبيًا (الفيلق العربي)، ودور محوري في الصراع العربي-الإسرائيلي، بالإضافة إلى تحديات بنيوية تتعلق بالهوية الوطنية والاقتصاد والشرعية السياسية استمرت لعقود بعد رحيله.
ختاما
يقدم كتاب ماري ويلسون "الملك عبد الله وبريطانيا وصناعة الأردن" رواية تاريخية تحليلية غنية ومفصلة، تتحدى التبسيط وتكشف عن التعقيدات والظروف التي أحاطت بولادة الدولة الأردنية. تجادل المؤلفة بأن الأردن لم يكن نتاجًا لحتمية تاريخية بل صنيعة تفاعل دقيق بين طموحات أمير هاشمي سعى لبناء مملكة لنفسه، وبين حسابات قوة إمبراطورية سعت لترتيب المنطقة بما يخدم مصالحها بعد انهيار النظام القديم. العلاقة بين عبد الله وبريطانيا كانت علاقة اعتماد متبادل ومناورة مستمرة، شكلت هوية الدولة ومؤسساتها ومسارها المستقبلي. من خلال تتبع هذه العلاقة الجدلية عبر ثلاثة عقود حاسمة، يقدم الكتاب فهمًا أعمق ليس فقط لتاريخ الأردن، بل لديناميكيات بناء الدولة في ظل الانتداب، ولعبة الأمم في الشرق الأوسط، والإرث المعقد الذي لا تزال المنطقة تتعامل معه حتى اليوم. إنه عمل يؤكد على أهمية فهم تفاعل العوامل المحلية والإقليمية والدولية، ودور الأفراد والطموحات الشخصية، وقوة الظروف التاريخية في تشكيل مصائر الأمم.
Comment
Share
Send as a message
Share on my page
Share in the group