الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
فهذا كلامٌ لم أكتبه انزعاجًا أو جدالًا أو بحثًا أو تعليلًا، ولا ينتفع به الأكثرون، وإنما تكلّفت كتابته نصيحةً للأقلين الذين يرومون السلامة ممن إذا نُبِّهوا تنبّهوا!
أولًا: الأحكام الشرعية (بمعناها العام الذي جرى عليه عمل الفقهاء) - خاصة فيما سوى الإيجاب والتحريم - لا تتوقف (بالضرورة) على وجود حديثٍ صحيح في المسألة بخصوصها، أو على وجود حديث أصلًا، لكن هذا فيه تفصيل دقيق أخفى مما يظنه أكثر طلبة العلم أنفسهم، ولا يكاد ينتظم في قواعد كلية، وهذا مِن المعلوم مِن ممارسة الفقه بالضرورة (الفقه الذي هو رتبة عالية من النظر وليس مجرد دراسة أو تدريس ما يُسمى اصطلاحًا بكتب الفقه)، وذلك منذ أن وُجِد الفقه والفقهاء في هذه الأمة، فلا علاقة لهذا بشمّاعة المتأخرين، وهذا لا يُعارَض بعبارات مطلقة أو تنظيرات هنا وهناك، فالعلم كله يُبنى على الاستقراء والاجتهاد وكثرة النظر وطول الاشتغال وفقه النفس، لكن من يصبر على هذا؟! .. وهذا عين البلاء بأنصاف طلبة العلم الذين يتلاعبون بعبارات الأئمة والعلماء من غير تحصيل أسباب فهمها على وجهها وإنزالها منازلها!
وينبني على ذلك أنه لا معنى لتعليق بعض الناس على كلام طويل عريض بقولهم: "لا يصح حديث في هذا الباب"، فهذا بمجرده - بغض النظر عن صحته في نفسه - لا يعدم حُكمًا أو يمنع عملًا أو يحظر رواية أو يدفع ترغيبًا وترهيبًا أو رجاءً وخوفًا!
ثانيًا: الدليل لأهل الدليل:
لا أستسيغ أبدًا أن يعلِّق إنسانٌ مجهول العين أو الحال فيقول مستنكرًا: "لم تذكر دليلًا على ما قلت"، أو يقول مثلًا: "هلّا ذكرت الدليل لننظر في صحة الدعوى"، أو لمّا يرى تخطئة قولٍ ما يقول مثلًا: "فليتناظر صاحبا القولين ويعرض كل منهما أدلته لنرى أيها أشد وطئًا وأقوم قيلًا"، وقد يكون القائل صبيًا لا يُحسن الإملاء! .. سبحان الله! .. استكبر الناس في أنفسهم وعتوا عتوًا كبيرا! .. وأعانهم على ذلك أنصاف طلبة العلم الذين جعلوا الدين لعبة، وأذهبوا حرمته وهيبته، وجرّأوا كل أحد عليه بعد جرأتهم هم أنفسهم، وجعلوا ساحة العلم والبحث مباريات أمام متفرجّين يتسلون ويشجّعون، ويحتفلون بــ (اللعبة الحلوة!)، وينقمون على قرارات المدرب الفلاني وينتقدون مهارات اللاعب العلاني، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وأنا أصلًا لا أبيح لنفسي ذكر الدليل والاستدلال في هذه المقامات العامة، ولا أعْرِض ذلك عَرْض البضاعة للقبول والرد من كل أحد، فمن انتفع فلنفسه، ومن أعرض فليلق الله بما شاء ولستُ على الناس بحفيظ، وما قد يُذكر من النصوص في سياق الفتوى ونحوها كثيرًا ما يكون من باب الاستئناس وربط المتلقي في عمله بالنصوص الشرعية الشريفة، لكن كل متفقه يعلم أنه قد يكون بين النص وإحكام الحكم مفاوز من النظر والبحث والاستدلال!
ثالثًا: إن لم تكن عالمًا فكن عاقلًا:
هناك قدرٌ من العقل والأدب لا يفتقر تحصيله إلى العلم! .. فعندما يُذكر كلام لابن تيمية وابن رجب وغيرهما من الأكابر، وفي سياقات أخرى: الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل هذه الطبقة = فليس من العقل فضلًا عن الأدب أن يعلّق إنسان بكلام لأحد المعاصرين ليس مقتضاه تضعيف قول هؤلاء فقط، بل سخافته أيضًا! .. وقد يكون هذا المعاصر لا وزن له في الفقه أصلًا فضلًا عن أن يُوضع في كفة مقابلة لكفة هؤلاء! .. هذا لا يحتاج إلى بيان! .. المشكلة أن الناس لا يعرفون أقدار هؤلاء الفقهاء على الحقيقة، ويعظمون المعاصرين ويعتقدون فيهم أكثر مما يعظمون هؤلاء، بل أكثرهم يعظّمون هؤلاء تقليدًا لمن يعظمون من المعاصرين وبحسب ما نشأ عليه الإنسان!
كما أنه ليس من الأدب أو العقل أن يعلِّق أحد على كلام إنسان ما دون أن يعرف رتبته في العلم والعقل، حتى لا يقاول من هو أعلم منه، وحتى لا يذكر له ما يكاد يُقطَع بأنه يعرفه!
رابعًا: لا تكن كالفَرّوج:
كان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف في صغره وفي أول أمره فيه خفة ومشاكسة لمن هم أعلم منه، كابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، فقالت له عائشة رضي الله عنها يومًا: "هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ .. مثل الفروج (أي الفرخ الصغير) يسمع الديكة تصرخ، فيصرخ معها"، فينبغي للعاقل أن يأنف من أن يكون كالفرّوج، أو أن يكون مَثَله كمَثَل الشيء الذي يحمل أسفارًا لا يعي ما فيها!
فلا تتكلم فيما لا تُحسن، ولا تنقل كلامًا لا تفهمه، ولا تترس بعبارات لبعض أهل العلم تجتزئها من كلامهم من غير أن تفهم مقاصدهم ومذاهبهم ومراداتهم ومحاملهم.
خامسًا: لا تستكثر من الأوزار!
إذا كنت معلمًا أو داعيًا أو واعظًا أو كنتِ معلمة أو مرشدة فلا يلزم أن يكون لك رأيٌ في كل شيء، ولا يلزم أن تُكَوِّن آراء عند من يتابعك في كل شيء!
هناك أبواب ومساحات شرعية يحرم أن يخوض فيها من ليس من أهلها ولو أصاب، وهناك مسائل كثيرة يحرم الإنكار فيها والتشديد والتبديع، خاصة من غير المتأهِل، وأقبح من ذلك وأعظم وزرًا أن يدعو الإنسان من يتابعه من غير المتأهلين إلى المشاركة في الإنكار والتبديع والكلام بغير علم!
العاقل الذي يتقي الله ويخشى الآخرة ويخاف على نفسه = يعمل بما أفتاه به العلماء، ويكثِر من الصمت في المضائق والدقائق، ولا يتكلم إلا في المساحات الآمنة، ويكثر من قول "لا أدري"، ويكثر من قول "سل العلماء واعمل بما يقولون وعليك بخاصة نفسك"، ويكثر من التعلُّم والسؤال ويتخفف من الإنكار والجدال، ولا يطلب فوق ما تقتضيه مرتبته من العلم، ويدعو إلى الخير الثابت الذي دعا إليه علماء الأمة الثقات الأثبات، ولا ينهى عن خيرٍ غير مشتمل على منكر مقطوع به غير سائغ، ويترك ما سوى ذلك لأهل العلم!
#منقول عن الشيخ كريم حلمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
فهذا كلامٌ لم أكتبه انزعاجًا أو جدالًا أو بحثًا أو تعليلًا، ولا ينتفع به الأكثرون، وإنما تكلّفت كتابته نصيحةً للأقلين الذين يرومون السلامة ممن إذا نُبِّهوا تنبّهوا!
أولًا: الأحكام الشرعية (بمعناها العام الذي جرى عليه عمل الفقهاء) - خاصة فيما سوى الإيجاب والتحريم - لا تتوقف (بالضرورة) على وجود حديثٍ صحيح في المسألة بخصوصها، أو على وجود حديث أصلًا، لكن هذا فيه تفصيل دقيق أخفى مما يظنه أكثر طلبة العلم أنفسهم، ولا يكاد ينتظم في قواعد كلية، وهذا مِن المعلوم مِن ممارسة الفقه بالضرورة (الفقه الذي هو رتبة عالية من النظر وليس مجرد دراسة أو تدريس ما يُسمى اصطلاحًا بكتب الفقه)، وذلك منذ أن وُجِد الفقه والفقهاء في هذه الأمة، فلا علاقة لهذا بشمّاعة المتأخرين، وهذا لا يُعارَض بعبارات مطلقة أو تنظيرات هنا وهناك، فالعلم كله يُبنى على الاستقراء والاجتهاد وكثرة النظر وطول الاشتغال وفقه النفس، لكن من يصبر على هذا؟! .. وهذا عين البلاء بأنصاف طلبة العلم الذين يتلاعبون بعبارات الأئمة والعلماء من غير تحصيل أسباب فهمها على وجهها وإنزالها منازلها!
وينبني على ذلك أنه لا معنى لتعليق بعض الناس على كلام طويل عريض بقولهم: "لا يصح حديث في هذا الباب"، فهذا بمجرده - بغض النظر عن صحته في نفسه - لا يعدم حُكمًا أو يمنع عملًا أو يحظر رواية أو يدفع ترغيبًا وترهيبًا أو رجاءً وخوفًا!
ثانيًا: الدليل لأهل الدليل:
لا أستسيغ أبدًا أن يعلِّق إنسانٌ مجهول العين أو الحال فيقول مستنكرًا: "لم تذكر دليلًا على ما قلت"، أو يقول مثلًا: "هلّا ذكرت الدليل لننظر في صحة الدعوى"، أو لمّا يرى تخطئة قولٍ ما يقول مثلًا: "فليتناظر صاحبا القولين ويعرض كل منهما أدلته لنرى أيها أشد وطئًا وأقوم قيلًا"، وقد يكون القائل صبيًا لا يُحسن الإملاء! .. سبحان الله! .. استكبر الناس في أنفسهم وعتوا عتوًا كبيرا! .. وأعانهم على ذلك أنصاف طلبة العلم الذين جعلوا الدين لعبة، وأذهبوا حرمته وهيبته، وجرّأوا كل أحد عليه بعد جرأتهم هم أنفسهم، وجعلوا ساحة العلم والبحث مباريات أمام متفرجّين يتسلون ويشجّعون، ويحتفلون بــ (اللعبة الحلوة!)، وينقمون على قرارات المدرب الفلاني وينتقدون مهارات اللاعب العلاني، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
وأنا أصلًا لا أبيح لنفسي ذكر الدليل والاستدلال في هذه المقامات العامة، ولا أعْرِض ذلك عَرْض البضاعة للقبول والرد من كل أحد، فمن انتفع فلنفسه، ومن أعرض فليلق الله بما شاء ولستُ على الناس بحفيظ، وما قد يُذكر من النصوص في سياق الفتوى ونحوها كثيرًا ما يكون من باب الاستئناس وربط المتلقي في عمله بالنصوص الشرعية الشريفة، لكن كل متفقه يعلم أنه قد يكون بين النص وإحكام الحكم مفاوز من النظر والبحث والاستدلال!
ثالثًا: إن لم تكن عالمًا فكن عاقلًا:
هناك قدرٌ من العقل والأدب لا يفتقر تحصيله إلى العلم! .. فعندما يُذكر كلام لابن تيمية وابن رجب وغيرهما من الأكابر، وفي سياقات أخرى: الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل هذه الطبقة = فليس من العقل فضلًا عن الأدب أن يعلّق إنسان بكلام لأحد المعاصرين ليس مقتضاه تضعيف قول هؤلاء فقط، بل سخافته أيضًا! .. وقد يكون هذا المعاصر لا وزن له في الفقه أصلًا فضلًا عن أن يُوضع في كفة مقابلة لكفة هؤلاء! .. هذا لا يحتاج إلى بيان! .. المشكلة أن الناس لا يعرفون أقدار هؤلاء الفقهاء على الحقيقة، ويعظمون المعاصرين ويعتقدون فيهم أكثر مما يعظمون هؤلاء، بل أكثرهم يعظّمون هؤلاء تقليدًا لمن يعظمون من المعاصرين وبحسب ما نشأ عليه الإنسان!
كما أنه ليس من الأدب أو العقل أن يعلِّق أحد على كلام إنسان ما دون أن يعرف رتبته في العلم والعقل، حتى لا يقاول من هو أعلم منه، وحتى لا يذكر له ما يكاد يُقطَع بأنه يعرفه!
رابعًا: لا تكن كالفَرّوج:
كان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف في صغره وفي أول أمره فيه خفة ومشاكسة لمن هم أعلم منه، كابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، فقالت له عائشة رضي الله عنها يومًا: "هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ .. مثل الفروج (أي الفرخ الصغير) يسمع الديكة تصرخ، فيصرخ معها"، فينبغي للعاقل أن يأنف من أن يكون كالفرّوج، أو أن يكون مَثَله كمَثَل الشيء الذي يحمل أسفارًا لا يعي ما فيها!
فلا تتكلم فيما لا تُحسن، ولا تنقل كلامًا لا تفهمه، ولا تترس بعبارات لبعض أهل العلم تجتزئها من كلامهم من غير أن تفهم مقاصدهم ومذاهبهم ومراداتهم ومحاملهم.
خامسًا: لا تستكثر من الأوزار!
إذا كنت معلمًا أو داعيًا أو واعظًا أو كنتِ معلمة أو مرشدة فلا يلزم أن يكون لك رأيٌ في كل شيء، ولا يلزم أن تُكَوِّن آراء عند من يتابعك في كل شيء!
هناك أبواب ومساحات شرعية يحرم أن يخوض فيها من ليس من أهلها ولو أصاب، وهناك مسائل كثيرة يحرم الإنكار فيها والتشديد والتبديع، خاصة من غير المتأهِل، وأقبح من ذلك وأعظم وزرًا أن يدعو الإنسان من يتابعه من غير المتأهلين إلى المشاركة في الإنكار والتبديع والكلام بغير علم!
العاقل الذي يتقي الله ويخشى الآخرة ويخاف على نفسه = يعمل بما أفتاه به العلماء، ويكثِر من الصمت في المضائق والدقائق، ولا يتكلم إلا في المساحات الآمنة، ويكثر من قول "لا أدري"، ويكثر من قول "سل العلماء واعمل بما يقولون وعليك بخاصة نفسك"، ويكثر من التعلُّم والسؤال ويتخفف من الإنكار والجدال، ولا يطلب فوق ما تقتضيه مرتبته من العلم، ويدعو إلى الخير الثابت الذي دعا إليه علماء الأمة الثقات الأثبات، ولا ينهى عن خيرٍ غير مشتمل على منكر مقطوع به غير سائغ، ويترك ما سوى ذلك لأهل العلم!
#منقول عن الشيخ كريم حلمي