هل كان الجهمية مؤولة؟
ينتشر في أوساط طلبة العلم أن الجهمية ينكرون الصفات، وفروعهم من الأشاعرة يؤولونها، وقد سبب هذا الكلام لبسًا عند الناس حتى وصل الحال ببعضهم إلى تهوين بدعة الأشعرية بدعوى أنهم مؤولة للنصوص لا منكرة لها!
وكبداية ليعلم القارئ أن لفظ "الجهمية" هو لفظ يطلق على معنىً عام يشمل من وافق جهمًا على أحد أصوله، وليس محصورًا في من وافقه على كل أصوله أو جلها، أو نفي الأسماء مع الصفات على حد سواء، ومن هذا المنطلق كان تصنيف شيخ الإسلام لكتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية وهو رد على الأشعرية في عصره، وهذا الإطلاق حاضر بشكل كبير في الآثار كقول الإمام أحمد:"الواقفة واللفظية جهمية"
والمعنى الثاني له هو من وافق جهمًا على جل أصوله فيتمايز عن بعض الفرق الأخرى كالمعتزلة والأشعرية الذين هم داخلون في مسمى الجهمية باعتبار الإطلاق العام، دون هذا الخاص
وكلامنا سيكون عن الجهمية على المعنى الثاني وهم الموافقون لجهم على جل أصوله، ومن أشهرهم بشر المريسي والثلجي
أما عن التأويل
فالتأويل لغة هو التفسير كما هو مشهور خصوصًا في كتب التفسير كالطبري
أما في اصطلاح الأشاعرة ومن حذى حذوهم هو صرف اللفظ عن ظاهره لقرينة، وهذه القرينة بطبيعة الحال ليست قرينة سياقية في الكلام ترجح أحد المعاني، بل هي عندهم قرينة عقلية أخذوها من الفلسفات اليونانية الباطلة وتنظيراتهم، ولما سلموا بها وجعلوها مطلق العقل وأثبتوا بها حدوث العالم، التزموا لوازمها على صفات الخالق وعلى معاني النصوص وجعلوا ظواهرها ممتنعة على الخالق، فتصرف إلى الاحتمال المرجوح لغة وسياقًا لعلة مخالفة التنظير
وقد كان حال القوم على هذا المنحى في تعاملهم مع النصوص
"قال البيضاوي ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد نور رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة"
فتح الباري 3/31
وهذا الضرب من التأويل ليس مما يهون بدعة صاحبه، بل هو ضرب من التكذيب المبطن
"وقال أبو القاسم بن منده فى كتاب «الرد على الجهمية»: التأويل عند أصحاب الحديث: نوع من التكذيب"
ذيل طبقات الحنابلة 1/31
وقد كانت طريقة متقدمي الجهمية على نفس منوال هؤلاء، بل كان بعضهم أحذق في ابتكار التحريفات كما كان الحال مع المريسي الجهمي
قال ابن تيمية:"وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس - مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه " تأسيس التقديس " ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم - هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه؛ وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا ولهم كلام حسن في أشياء. فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنف كتابا سماه: (رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم"
مجموع الفتاوى 23/5
فبين الشيخ أن طريقة هؤلاء متحدة بحذافيرها
وهذا الواقع فتجد المريسي الجهمي يفسر الاستواء بالاستيلاء ويوافقه في ذلك جمع من الأشعرية، والحال ذاته في تأويلهم اليد بالقوة أو النعمة، وتأويل القدم وغيره فبينهم في ذلك توافق عجيب
وقد كان بعضهم كالثلجي يخترع الأحاديث الشنيعة وينسبها لأهل الحديث لكي يعيب بها عليهم ثم يتكلف أن يؤولها(يكذب الكذبة ويؤولها)
ولمزيد إيضاح للحجة في كون الجهمية مؤولة على التحقيق، سآتي بثلاثة شهود من أئمة السلف قد ذكروا حالهم هذا
1- قال الترمذي:"وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة"
سنن الترمذي 3/41
فلم ينكروا آيات الكتاب بل كان صنيعهم كصنيع الأخرين من أشعرية ومعتزلة بأن أثبتوا اللفظ وحرفوا معناه تحت ستار التأويل
2- قال الدارمي:"فقال قائِلٌ منهم: معنى إتيانه في ظُلَلٍ من الغَمَامِ، ومجيئه والمَلَكُ صفًا صفًّا، كمعنى كذا وكذا.
قلت: هذا التكذيب بالآية صُرَاحًا، تلك معناها بَيِّنٌ للأمة لا اختلاف بيننا وبينكم وبين المسلمين في معناها المفهوم المعقول عند جميع المسلمين"
الرد على الجهمية 91
فأثبت الآية وحرف معناها، وعده الإمام بهذا لوحده مكذبًا محرفًا
3-قال ابن خزيمة:"وزعمت الجهمية المعطلة: أن معنى قوله: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ أي نعمتاه، وهذا تبديل، لا تأويل"
كتاب التوحيد 1/192
وبذلك يتبين أن القوم منتهجون للتأويل، لا كما وقع في أوهام بعض الناس أنهم مكذبون صرف، وأن السلف إنما كفروهم لتكذيبهم ألفاظ الآيات
وقد وقع لبعضهم شيء من التكذيب كما نقل عن الجهم وكما نقل عن بشر وغيرهم، وهذا وقع لبعض المعتزلة كذلك كالزمخشري لما زعم أن النبي قد يكون زاد في القرآن بعض آية
وقد وقع كذلك لبعض الأشاعرة المعاصرين في سوريا أنه شُهد عليه أنه قال: "ليت الله لم يتكلم بآية الاستواء"
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
هل كان الجهمية مؤولة؟
ينتشر في أوساط طلبة العلم أن الجهمية ينكرون الصفات، وفروعهم من الأشاعرة يؤولونها، وقد سبب هذا الكلام لبسًا عند الناس حتى وصل الحال ببعضهم إلى تهوين بدعة الأشعرية بدعوى أنهم مؤولة للنصوص لا منكرة لها!
وكبداية ليعلم القارئ أن لفظ "الجهمية" هو لفظ يطلق على معنىً عام يشمل من وافق جهمًا على أحد أصوله، وليس محصورًا في من وافقه على كل أصوله أو جلها، أو نفي الأسماء مع الصفات على حد سواء، ومن هذا المنطلق كان تصنيف شيخ الإسلام لكتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية وهو رد على الأشعرية في عصره، وهذا الإطلاق حاضر بشكل كبير في الآثار كقول الإمام أحمد:"الواقفة واللفظية جهمية"
والمعنى الثاني له هو من وافق جهمًا على جل أصوله فيتمايز عن بعض الفرق الأخرى كالمعتزلة والأشعرية الذين هم داخلون في مسمى الجهمية باعتبار الإطلاق العام، دون هذا الخاص
وكلامنا سيكون عن الجهمية على المعنى الثاني وهم الموافقون لجهم على جل أصوله، ومن أشهرهم بشر المريسي والثلجي
أما عن التأويل
فالتأويل لغة هو التفسير كما هو مشهور خصوصًا في كتب التفسير كالطبري
أما في اصطلاح الأشاعرة ومن حذى حذوهم هو صرف اللفظ عن ظاهره لقرينة، وهذه القرينة بطبيعة الحال ليست قرينة سياقية في الكلام ترجح أحد المعاني، بل هي عندهم قرينة عقلية أخذوها من الفلسفات اليونانية الباطلة وتنظيراتهم، ولما سلموا بها وجعلوها مطلق العقل وأثبتوا بها حدوث العالم، التزموا لوازمها على صفات الخالق وعلى معاني النصوص وجعلوا ظواهرها ممتنعة على الخالق، فتصرف إلى الاحتمال المرجوح لغة وسياقًا لعلة مخالفة التنظير
وقد كان حال القوم على هذا المنحى في تعاملهم مع النصوص
"قال البيضاوي ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه فالمراد نور رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة"
فتح الباري 3/31
وهذا الضرب من التأويل ليس مما يهون بدعة صاحبه، بل هو ضرب من التكذيب المبطن
"وقال أبو القاسم بن منده فى كتاب «الرد على الجهمية»: التأويل عند أصحاب الحديث: نوع من التكذيب"
ذيل طبقات الحنابلة 1/31
وقد كانت طريقة متقدمي الجهمية على نفس منوال هؤلاء، بل كان بعضهم أحذق في ابتكار التحريفات كما كان الحال مع المريسي الجهمي
قال ابن تيمية:"وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس - مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه " تأسيس التقديس " ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم - هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه؛ وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا ولهم كلام حسن في أشياء. فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري صنف كتابا سماه: (رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: علم حقيقة ما كان عليه السلف وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم"
مجموع الفتاوى 23/5
فبين الشيخ أن طريقة هؤلاء متحدة بحذافيرها
وهذا الواقع فتجد المريسي الجهمي يفسر الاستواء بالاستيلاء ويوافقه في ذلك جمع من الأشعرية، والحال ذاته في تأويلهم اليد بالقوة أو النعمة، وتأويل القدم وغيره فبينهم في ذلك توافق عجيب
وقد كان بعضهم كالثلجي يخترع الأحاديث الشنيعة وينسبها لأهل الحديث لكي يعيب بها عليهم ثم يتكلف أن يؤولها(يكذب الكذبة ويؤولها)
ولمزيد إيضاح للحجة في كون الجهمية مؤولة على التحقيق، سآتي بثلاثة شهود من أئمة السلف قد ذكروا حالهم هذا
1- قال الترمذي:"وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة"
سنن الترمذي 3/41
فلم ينكروا آيات الكتاب بل كان صنيعهم كصنيع الأخرين من أشعرية ومعتزلة بأن أثبتوا اللفظ وحرفوا معناه تحت ستار التأويل
2- قال الدارمي:"فقال قائِلٌ منهم: معنى إتيانه في ظُلَلٍ من الغَمَامِ، ومجيئه والمَلَكُ صفًا صفًّا، كمعنى كذا وكذا.
قلت: هذا التكذيب بالآية صُرَاحًا، تلك معناها بَيِّنٌ للأمة لا اختلاف بيننا وبينكم وبين المسلمين في معناها المفهوم المعقول عند جميع المسلمين"
الرد على الجهمية 91
فأثبت الآية وحرف معناها، وعده الإمام بهذا لوحده مكذبًا محرفًا
3-قال ابن خزيمة:"وزعمت الجهمية المعطلة: أن معنى قوله: ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ أي نعمتاه، وهذا تبديل، لا تأويل"
كتاب التوحيد 1/192
وبذلك يتبين أن القوم منتهجون للتأويل، لا كما وقع في أوهام بعض الناس أنهم مكذبون صرف، وأن السلف إنما كفروهم لتكذيبهم ألفاظ الآيات
وقد وقع لبعضهم شيء من التكذيب كما نقل عن الجهم وكما نقل عن بشر وغيرهم، وهذا وقع لبعض المعتزلة كذلك كالزمخشري لما زعم أن النبي قد يكون زاد في القرآن بعض آية
وقد وقع كذلك لبعض الأشاعرة المعاصرين في سوريا أنه شُهد عليه أنه قال: "ليت الله لم يتكلم بآية الاستواء"
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم